العدد الأقصى : 20 من 20 ؟

في الدّورة الأخيرة من امتحانات الباكالوريا أسندت لجنة من لجان إصلاح اختبار الفلسفة العدد الأقصى أي 20 من 20 لورقة من أوراق الامتحان. و لا أحبّ هنا أن أشخصن المسألة و سأتجاهل إن كان المتحصّل على الامتياز ذكرا أم أنثى و إن كان الاختبار في مادّة دون أخرى و إن كانت اللجنة منتسبة إلى جهة دون أخرى أو إلى فئة دون أخرى أو تكوين دون آخر…فهذه جملة من العوامل يمكن أن تكون، منفردة أو مجتمعة، من الدّواعي المفسّرة لهذا الاجتهاد
و اعتقادي أنّه يحسن، في هذه القضيّة، استحضار الآداب التّي عليها تكوّنت الأجيال الأولى في التربية و التعليم على اختلاف مستوياته في تونس. فقد درج عندنا التمييز بين إصلاح اختبارات العلوم الصحيحة و إصلاح اختبارات العلوم الإنسانيّة و كان الاختبار اللغويّ في قواعد اللغة ضربا من ضروب الامتحان العلمي. و لم يكن من المستغرب أن يتحصّل التلميذ و الطالب على أقصى العدد إذا كانت إجابته صحيحة و يبقى من الظلم أن لا يتمتّع ب20 على 20 إذا اهتدى إلى أنّ اثنين مع اثنين يساوي أربعة فإذا كانت 2+2= 0 فهذا ممكن و لكنّه متنزّل في غير سياق العلم
أما ما تربّت عليه الأجيال منذ الخمسينات و الستّينات فإنّ أفضل ما كان يُسند من الأعداد لاختبارات التحرير الفكريّ و الأدبي لم يكن ليتعدّى 13 من 20 فإن تعدّاه، وهو نادر، فلتلميذ أو طالب عجب. و قضيّة العدد الأقصى لم تكن في الحقيقة قضيّة مطروحة على البساط البيداغوجي. و كلّ ما في الأمر أنّ علم التربية كان يدرّبنا على تقدير جملة من المقاييس أوّلها أن يكتب المختبَر في صميم الموضوع دون الخروج عنه و أن يرتّب أفكاره حسب تخطيط واضح متماسك و أن يكون ذلك في لغة واضحة مؤدّية للمعنى و سليمة. بل كان السّادة المتفقّدون يدعوننا إلى إيلاء نظافة ورقة الامتحان و حسن خطّ التلميذ و وضوحه و يسر قراءته اهتماما و اعتبارا. فإن تمّ ذلك كان العدد الأقصى في حدود 13 من 20
و في مرحلة لاحقة من الحياة التربوية في بلادنا راجعة ربّما إلى التّسعينات و ما بعدها، في عهد جديد تكسّرت فيه العديد من القيود و الحواجز طُرحت قضيّة العدد الأقصى و تساءل رجال السياسة و المربّون ربّما و الأولياء و التلامذة عن المانع من إسناد العدد الأقصى أي 20 من 20 في اختبارات العلوم الإنسانيّة في الإنشاء الفكريّ و الأدبيّ. أمّا المبرّر لهذه المراجعة فهو تقييم ورقة الامتحان بحسب المستوى الفكريّ و المعرفيّ الموافق لمستوى التلميذ أو الطالب لا تقييمها بحسب المستوى المطلق للإنشاء المثالي المنفلت عن الحصر و الضبط. بل إنّه وقع التّشكيك في موضوعيّة و علميّة و وجاهة العدد المسنَد في العلوم الإنسانيّة ما دام ذلك العدد قائما بالأساس على الحسّ و الانطباع و التقدير و احتجّ علينا الرّأي العام في مدى قناعتنا و إقناعنا بالفرق بين 10 من 20 علامة النجاح و 9 و نصف علامة الرّسوب
و على هذا الأساس اتّسعت دائرة إسناد العدد إلى أن بلغت في دورة الباكالوريا هذه تمامها. و اعتقادي أن لا إفراط و لا تفريط. و اعتقادي أن الإنشاء أيّا كان مجاله لا يمكن الحكم فيه بمطلق الأحكام و الأعداد و 20 من 20 هو تقييم مطلق مغلق لا يقيم اعتبارا للممكن و للأفضل و أنّ لجنة غير هذه اللجنة كان يمكن أن تسند غير هذا العدد و ليس الأمر كذلك في العلوم الصحيحة، بل إنّ هذه اللجنة في ظرف غير ذلك الظرف ربّما راجعتْ نفسها فيه و تراني أنزلق من مجال إصلاح موضوع الامتحان إلى مجال القراءة و التلقّي على الإطلاق. و يبقى المجال مفتوحا بين الخبراء و إمكانيّة الدّعوة إلى مائدة مستديرة في الموضوع إن بقيت للمربّين : شاهية

الدكتور الهادي جطلاوي