الباجي يودّع الشارع التونسي الوداع الأخير

عندما قامت الثورة التونسيّة في 2011 تمكّن شبابها من إزاحة الحاكم المستبدّ و لكنّهم لم يكونوا رافعين للحاكم البديل. و في ظرف كانت الذّئاب المتكالبة مكشّرة أنيابها على السلطة رأى الباجي قائد السبسي بحنكته و تمرّسه أنّ الفرصة سانحة له للعودة إلى السّاحة السياسيّة بعد تجربة طويلة و تقاعد طويل. و كان الباجي متسلّحا برصيد بورقيبيّ كبير من محبّة النّاس و متشبّعا ببيداغوجيّة ذكيّة في مخاطبة النّاس قائمة على البلاغة في الاستحواذ على القلب التّونسيّ المسلم « المزمّر » « ولد باب الله ». و قد شاءت الأقدار أن يمثّل الباجي في 2014 زورق النجاة من خطر الإخوان و التطّرف الدّيني المتفشّي ففتح له المجتمع المدني في السياسة كلّ أسباب النجاح. و لعلّه كان مفلحا في السياسة الخارجية فلاحا لم يعرفه في السياسة الدّاخليّة. و لا شكّ أنّ تقدّمه في السنّ قد خوّل له أن يلعب، في جوّ سياسيّ مشحون، مهمّة أبويّة ارتاح لها الكبار و الصّغار
و رغم ما أبداه الباجي من قدرة ذهنيّة و بدنيّة عجيبة للاضطلاع بمهامّ الرئاسة فإنّ الوعكة الصحيّة الحادّة التّي فاجأته مؤخّرا و فاجأت التونسيين قد أمهلته من الوقت ما جعل الناس يتحدّثون عن وصيّة الباجي و لعلّ الباجي قد استشعر وفاته و لعلّه قد هندس لرحيله. و كأنّي به اليوم يحقّق ما يمكن أن نسمّيه بالأمنية الأخيرة وهي أمنيّة لطالما تمتّع بها بورقيبة قبله و ها أنّ الباجي يتمتّع بها اليوم، و لو على جثّته، وهي أن يجوب شوارع المدينة منتصرا و أن تغصّ الشوارع بالتونسيين في حرّ الهاجرة يحيّونه و يلهجون باسمه و كم كان الباجي يتمنّى أن يردّ على الناس التحيّة بيد مشروعة و ابتسامة عريضة و لكنّه قنع اليوم بأن يسمع، وهو مُسجّى، أهازيج النّاس التّي لم يسمعها مناضلا و لا وزيرا و لا رئيسا. فكأنّ تونس تعيش اليوم عيد النّصر مرّة ثانيّة غير أنّ التاريخ أرادها أن تكون مستقبلة لبورقيبة في عيد النصر الأوّل و أن تكون مودّعة للباجي في عيد النّصر الثاني
فكان الباجي في جنازته اليوم هو المحيّي و المودّع و كانت السيّدة حرمه اليوم هي الشاعرة وحدها بمشاعره وهي السّعيدة وحدها لسعادته. و عسى الرّحمان أن يتغمّده برحمته و أن يسعده بلقاء معلّمه و عسى الرّحمان أن يجعل من موته عبرة لنا و أن يرزقنا ببذرة حلال من بني هذه الأرض الطيّبة

الدكتور الهادي جطلاوي